أزمة مقعد الداهوم
من المسلم به أن الأصل في النصوص التشريعية الدستورية هو ألا تحمل على غير مقاصدها، وألا تفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها، أو بما يؤول إلى الالتواء بها عن سياقها، أو يعتبر تشويها لها، سواء بفصلها عن موضوعها أو بمجاوزتها الأغراض المقصودة منها، ذلك أن تشويها للمعاني التي تدل عليها هذه النصوص والتي ينبغي الوقوف عندها، هي تلك التي تعتبر كاشفة عن حقيقة محتواها، مفصحة عما قصده المشرع الدستوري منها، مبينة عن حقيقة وجهتها وغايتها من إيرادها، ملقية الضوء على ما عناه بها، ومرد ذلك أن النصوص الدستورية لا تصاغ في الفراغ ، و لا يجوز انتزاعها من واقعها محددا بمراعاة المصلحة المقصودة منها، وهي مصلحة اجتماعية يتعين أن تدور هذه النصوص في فلكها، ويفترض دوما أن المشرع الدستوري رمى إلى بلوغها متخذا من صياغته لنصوصها سبيل إليها.
وقد عنت المادة 173 من الدستور الكويتي بتحديد الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح وتفسير النصوص الدستورية وأحال إلى القانون آلية تنظيمها في نصوص خاصة، حيث كفل الدستور هذا الحق لكل من الحكومة وذوي الشأن في الطعن لدى تلك الجهة في دستورية القوانين واللوائح وقرر أن الأثر من عدم دستوريتها هو اعتبار هذا القانون كأن لم يكن، كي لا تكون النصوص الدستورية التي يتضمنها الدستور حبرا على ورق أو أنها مجرد نصوص عادية من السهل مخالفتها دون ردع للمخالف الذي تجاوز الحدود التي رسمها الدستور، ما يفرغها من قدسيتها فلا يصبح هناك قيمة لها، فضمان احترامها إنما يكون بوجود القضاء الذي يستطيع أن يرد المخالف ويمحو أي جور عليها.
وبموجب النص الدستوري أعلاه، أنشئت المحكمة الدستورية وفق القانون رقم 14 لسنة 1973، واختصها القانون دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية، وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح، وفي الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، ويكون حكم المحكمة الدستورية ملزما للكافة ولسائر المحاكم.
وترجع وقائع قضية د. بدر الداهوم بصدور حكم المحكمة الدستورية بتاريخ 14/3/2021 رقم 15/2020 طعون خاصة بانتخابات مجلس الأمة، والمرفوع من محمد عبدالهادي حسين مبارك ضد الداهوم ورئيس مجلس الأمة بصفته، طعنا على نتيجة انتخابات مجلس الأمة التي أجريت يوم 5/12/2020 في الدائرة الخامسة فيما تضمنه من إعلان فوز المطعون ضده الأول «الداهوم» طالبا فيها إبطال عملية الانتخاب والتي أسفرت عن فوزه بها وبعدم صحة عضويته في مجلس الأمة مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها إعادة الانتخاب مجددا في الدائرة الخامسة.
وبعد أن استعرضت المحكمة حيثيات حكمها والتي بينت فيه عدم انطباق شروط الناخب ومن ثم شروط المرشح بسبب صدور حكم ضد المطعون ضده الأول «الداهوم» وهو ما يعني أن إرادة الناخبين قد وردت على غير محل صالح للتصويت والاقتراع عليه وتكون نتيجة الانتخابات بفوزه فيها متضمنا إعلانا عن إرادة الناخبين، وقد بينت المحكمة الدستورية اختصاصها بنظر الطعن كون أن إعلان فوز المطعون ضده الأول لا يتعلق بإرادة جهة الإدارة إنما يتعلق بإرادة الناخبين.. إلى آخر ما جاءت به المحكمة من أسباب شيدت بها حكمها القاضي بالمنطوق التالي: «حكمت المحكمة: ببطلان إعلان فوز المطعون ضده الأول «الداهوم» في الانتخابات التي أجريت بتاريخ 2/12/2020 في الدائرة الخامسة وبعدم صحة عضويته في مجلس الأمة مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها إعادة الانتخاب مجددا في هذه الدائرة لشغل المقعد الانتخابي الذي حصل عليه».
وهو ما يعني انسحاب أثر بطلان إعلان فوز المطعون ضده الأول «الداهوم» بأثر رجعي وبالتالي عدم تمتعه بالعضوية البرلمانية أصلا، ونظرا لما يتمتع به الحكم الصادر من قبل المحكمة الدستورية بالقوة الإلزامية للكافة ولسائر المحاكم، فقد ثار الجدل بالشارع الكويتي عن مدى إمكانية تطبيقه والعمل على تنفيذه من قبل السلطة التشريعية لاسيما وأن المحكمة الدستورية سبق لها وأن حكمت بحكم سابق لها بعدم دستورية نص المادة 16 من قانون اللائحة الداخلية لمجلس الأمة الكويتي التي تنظم آلية تطبيق إسقاط العضوية، وتبين شروطها التنظيمية سواء الإلزامية منها أو الوقتية، حيث لم توجد السلطة التشريعية لها بديلا تنظيميا بعد إلغائها ينظم آلية تطبيق الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية خاصة فيما يتعلق بإسقاط عضوية النائب في مجلس الأمة، وهو ما يعني أن السلطة التشريعية ليس لها عند تطبيق و تنفيذ حكم الدستورية إلا النظر في نص المادة 84 من الدستور فقط كي تقوم بتطبيق الحكم بما يتناسب مع مبدأ الفصل بين السلطات الذي عالجته المادة 50 من الدستور الكويتي.
وبالنظر إلى محاضر جلسات المجلس التأسيسي ومناقشاته التي أسفرت عن ميلاد دستور دولة الكويت عام 1962، فالملاحظ أن السادة أعضاء المجلس التأسيسي والخبراء عندما ناقشوا مواد الدستور قد ميزوا بين المصطلحات الدستورية المستخدمة فلم يكن استخدامها من قبلهم محض صدفة، بل كان هدفهم في تلك التفرقة هو تبيان معانيها والمقصود منها وتحديد اختصاصها، فقد استخدمت مصطلحات جاءت محددة المقصد وهي: رئيس المجلس، المجلس، عضو المجلس، النائب، رئيس مجلس الوزراء وهو رئيس الحكومة والوزراء الذين هم بحكم وظائفهم أعضاء بالمجلس.
وهو ما يعني أن كل مصطلح له حدوده التي رسمها له الدستور سلفا أو تلك التي أحال بها الأخير للقانون لتنظيمها، وبالتالي فإن ما جاءت به المادة 84 من الدستور هو ما يفسر بيقين لا يدع مجالا للشك أن المؤسسين وما قد دار بينهم من مناقشات إبان صياغتهم تلك المادة وإقرارها في صلب الدستور ثم الموافقة عليها قد قصدوا أن يكون الأمر بيد «المجلس» ككل دون غيره ودون معقب عليه من أية جهة كانت، وأن سلطة الموافقة على هذا الإعلان من عدمه قد تقررت للمجلس وحده، بحسبان أن هذا العمل هو من الأعمال البرلمانية اللصيقة بكيان المجلس، وإن سلمنا بهذا التفسير الواضح الجلي فإن استخدام المشرع الدستوري ومذكرته التفسيرية لهذا المصطلح «المجلس» والذي قصد به توزيع الاختصاصات الدستورية لكل السلطات دونما تداخل إنما تعاون مع عدم جواز نزول أية سلطة منها عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في الدستور – وفقا لنص المادة 50 السابق الإشارة إليها – فإن ذلك يسوقنا إلى لزومية إدراج إعلان خلو المقعد بجدول أعمال المجلس كي يدلي أعضاء المجلس بكلمتهم بالتصويت انطلاقا مما انتهت إليه نفس المادة 50 من الدستور والتي قضت بالفصل المرن بين السلطات الثلاث مع ضرورة التعاون فيما بينهم.
المحامي د. هيثم أحمد العون – خبير بالشؤون الدستورية
